تقضي المادة 107/3 ق م بأنه " إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها و ترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي ، و إن لم يصبح مستحيلا ، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول ، و يقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك " .
و من هنا فان فكرة نظرية الظروف الطارئة ( la théorie de Limprevision ) تفترض وجود عقودا يتراخى فيها التنفيذ إلى اجل أو إلى آجال ، كعقد توريد ، أو عقد بيع شيء مستقبل ، و عند حلول اجل التنفيذ تكون الظروف الاقتصادية قد تغيرت بسبب حادث لم يكن متوقعا . مما يؤدي إلى فقدان التوازن الاقتصادي بين الالتزامات الناشئة عن العقد في ذمة طرفيه . الأمر الذي يجيز للقاضي أن يتدخل ليوزع تبعة هذا الحادث على عاتق الطرفين ، ويرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول و المألوف في مثل هذه الحالة .
إن نظرية الظروف الطارئة تعالج عاقبة حادث لا يد فيه لأي من المتعاقدين ( كحرب ترتب عليها انقطاع الواردات ، أو كارثة طبيعية أودت بالمحصول ، أو صدور قانون ترتب عليه ارتفاع أثمان أشياء معينة ) . أي أنها تعالج اختلال التوازن عند تنفيذ العقد، و لهذا كان أثرها توزيع تبعة الحادث الطارئ على عاتق الطرفين ، كما لو كان العقد من عقود التوريد فارتفعت الأسعار لظروف كالحرب مثلا ، بحيث أصبح السعر الذي يحصل به المدين على السلعة الملزم بتوريدها اكبر من السعر الذي يبيع به في عقد التوريد و نفس الاحتمال كما قد يوجد في جانب المدين قد يوجد في جانب الدائن ،كما لو كان العقد من عقود الإيجار الطويلة المدة ، و انخفض سعر العملة فأصبحت الأجرة المتفق عليها لا تكفي لتغطية مصاريف العين المؤجرة .
1/ تطور نظرية الظروف الطارئة :
تنبه فقهاء التشريع الإسلامي إلى اثر الظروف الاقتصادية ،و مجافات هذا الوضع لقواعد العدالة ، فقرروا عدم جواز الغبن ، سواء كان ذلك في تكوين العقد أو في تنفيذه ، فهي في كلا الحالتين ربا محرم . و من هنا ، حرم الفقه الإسلامي الربا ،و جعل الغبن سبب من أسباب فسخ العقود . كما أن نظرية الظروف الطارئة تستند في حقيقتها على نظرية الظروف الضرورة ( la nécessite ) و نظرية العذر ( l'excuse ) ،و كذا نظرية الحوائج ( les calamites ) و كلها من النظريات الإسلامية التي تتماشى مع احدث النظريات القانونية في هذا الموضوع . و قد أكد الفقيه الفرنسي الكبير الأستاذ " ادوارد لامبير" ( E .Lambert ) في المؤتمر الدولي للقانون المقارن الذي انعقد بمدينة لاهاي سنة 1932 بأن:" نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي تعبر بصورة أكيدة و مثالية عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام في نظرية الظروف المتغيرة، و في القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف الطارئة،و في القضاء الانجليزي فيما ادخله من المرونة على نظرية استحالة تنفيذ الالتزام تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي نشأت بسبب الحرب، و في القضاء الدستوري الأمريكي في نظرية الحوادث المفاجئة " .
و لقد جاء في كتاب " الأشباه و النظائر" لابن نجيم الحنفي كثير من القواعد الكلية و المبادئ الفقهية التي تقوم على أساس نظرية الضرورة . و يتفرع عن هذه النظرية جملة من القواعد تدخل ضمنها : لا ضرر و لا ضرار ، المشقة تجلب التيسير ، الضرر يزال ، الضرورات تبيح المحظورات ، الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف ، الضرر الخاص لدفع الضرر العام ، الأمر إذا ضاق اتسع ، درء المفاسد أولى من جلب المصالح، الضرورات تقدر بمقدارها ، و غيرها من القواعد الكلية التي تجيز تغيير العقود و الاتفاقيات الدولية إذا تغيرت الظروف . و لم يأخذ بها القانون المدني الفرنسي الذي مازال متمسكا بان العقد شريعة المتعاقدين لا يجوز تعديله شروطه مهما تغيرت الظروف على أساس القاعدة المشهورة ( pacta Sun servanda )
و عليه فان نظرية الظروف الطارئة هي من صميم الفقه الإسلامي ، و هي تقوم على أساس الضرورة ،و العدل، و الإحسان لقوله تعالى : " يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر " ( )
و قوله سبحانه : " إن الله يأمر بالعدل و الإحسان " ( ) ، و قوله :" ما جعل عليكم في الدين من حرج " ( ) ، و قوله عليه السلام : " أحب الدين إلى الله الحنفية السمحاء" .
و لقد ذهب فقهاء القانون الكنسي المسيحي إلى نفس الحكم عن طريق افتراض وجود شرط ضمني من مقتضاه وجوب تعديل العاقد لالتزامه إذا تغيرت الظروف عند التنفيذ بحيث أصبح في الالتزام إرهاق له .
ونلاحظ أن القانون الفرنسي القديم رفض الأخذ بهذه النظرية ، كما أن القضاء المصري في ظل القانون القديم ، شانه في ذلك شان القضاء الفرنسي ، رافضا العمل بهذه النظرية على أساس أن الأخذ بها بدون رضاء الطرفين هو بمثابة نقض جزئي للعقد ( م 1134 ق.م.ف).
غير أن هذه النظرية وجدت لها نصيرا في القضاء الإداري الفرنسي، بعد الحرب العالمية الأولى ، فاخذ بها مجلس الدولة الفرنسي في قضية معروفة " لشركة الغاز بمدينة بوردو (Affaire gaz de Bordeaux) ، إذ كانت الشركة ملزمة بتوريد الغاز للمدينة بسعر معين ، ثم ارتفع سعر الفحم اللازم لإنتاج الغاز ، فعدل مجلس الدولة العقد بما يتفق مع هذا الارتفاع في السعر ، ثم توالت أحكامه في هذا المعنى بعد ذلك و خاصة في عقود التوريد ،ومقاولات الأشغال العامة .
ثم أخذت النظرية تظهر في القوانين الحديثة و بدأت تلقى تأييدا في الفقه و القضاء ، فأخذت بها بعض التقنينات الحديثة ، كالقانون البولوني (269 ق.م.ب) و القانون الايطالي ( م1467 ق.م.ا) ، و القانون المصري (م147/2 ق.م.م) ، والقانون الجزائري ( م 107/7 ق.م.ج) و القانون السويسري ( م 148/2 ق.م.س) ، و القانون العراقي (م 146/2 ق.م.ع) ، و القانون الليبي ( م 147 ق.م.ل) .